من لوحة المسند الى الفضاء المفتوح
عتمة تكسرت بقوة الضوء.. جغرافيات تجاهد في تمرير عوالمها ببهجة الألم الذي ينسج أوهامه على مرمى العيون الحائرة.. عوالم غريبة كغربة الرائي لها.. بمسميات أزمنة الاكتظاظ والتشظي.. بتبقيعات وتركيبات قلقة.. تستيقظ معها الفجيعة.. تكاد الأذان تسمع لهاث صحرائها بشاهد الكتلة والفراغ.. بمرثيات ليل شتائنا الطويل.. يتحضر (رضوان ابوشويشة) بغربته لا ليسرد خواطرنا.. بل ليقدم لنا وجع ليس وجعنا ألشبقي "اروتيكية" – المنغمس في لذائد فقرنا.. بمعزوفات أحزاننا تتأسطر عوالم الفنان الذي استطاع صياغتها على الأقل من مهله.. بعد كل انقطاع يفاجئنا بمجيئه المتسلل عبر نوافذ أرواحنا التي كلسها النظر الغرائزي للأشياء الاعتيادية!.
مهام حملها على عاتقه بقناعة فنان تفرغ للإبداع والتواصل بعد الخمسين من العمر، تبدأ معه حكاية اللون والمواد الثقيلة – المختلفة- ليولج أمكنته، التي طالما عبرها من جديد.. فنان آل على نفسه خوض تجربة جديدة.. فيها الفرادة والتميز.. فقد أعد نفسه مسبقا لمهام صعبة، كانت دافعه لخوض غمار التجريب والبحث، بأدوات حديثه قديمة.. تستنهض صيغ جديدة في التعبير.. محملا بأفكار وثقافة هي متكأه الذي ينهل منه.. نتحسسها بمجرد الوقوف أمام أنصابه وفراغياته.. رغم أنها تتعارض مع خلفيتها الثقيلة الداكنة، التي كانت غائبة بفعل الحضور لأعماله التركيبية.
مبدع أجاد فسهر. فهو فنان جمع الفن والفكر في أعماله بتركيبات الوجع والألم.. ألذاذه – التطهير.. فتقف أعماله غريبة قبالة راهينيات الإبداع التقليدي.. راهينيات آلت على نفسها الانغماس في التبقيعات والتدهين الأفقي الانتشار.. فركّنها واقع الاحداثيات المتطور تشكيليا داخل مربعات المسميات القديمة.. رغم فقدانها للبريق إلا أنها حاضرة بقوة العمى والتخلف والجهالة، التي باتت سنة النظر الساقط في غرائزية الممارسة.
فكما عودنا رضوان ابوشويشة بزحزحة المعنى داخل النصوص في أعماله الأولى.. التي اعتمدت على تقنيات تقليدية.. إلا أنها كانت محملة بفكرة "ما" كما يؤكد هذا قوله الدائم حول أعماله، ومحاولة إقناع الآخرين بفكرة قد ضمنها لوحته.. فهذا مهم بالنسبة للفنان والأخر.. إلا أن لثقافتنا البصرية الذهنية رأيا آخر "أحيانا" في وضع معنى بديل يتحرك وفق اشارات ودلالات بالإمكان إيجاد وعاء معنى لها خارج حقول معرفيات الفنان نفسه "التلقينية" وهذا ما أعرفه بديمقراطية الإبداع والاختلاف المنتج في مناخات الفن.
إن التطور الملاحظ عند رضوان ابوشويشة في صيرورته الإبداعية، والسريع.. يضعنا أمام أسئلة مشروعة نجاهد في ايجاد ايجابات لها.. والدافع هنا للأسئلة قياسً بسنوات الرسم والاشتغال عند الفنان.. رغم أنها كانت سنوات قليلة في المجال الإبداعي التشكيلي، هذا مقارنة بفنانين آخرين قطعوا شوطا كبيرا في هذا المجال.. أي في التشكيل عموما.. فكيف نستطيع قراءة التطور في مسيرته الإبداعية؟ وإقناع أنفسنا بهذا التطور، والتحول في تجربته؟ التي حدثت فجأهّ، وكانت سريعة.. أي تجاوزت إمكانات ملاحقتنا لها.. وليس نحن في هذا الجانب بمقصرين في ملاحقة تطوره، الذي نجد ارهاصاته الأولى في بعض أعماله التي اعتمدت على تقنية المواد المختلفة في اللوحة الواحدة.. كما أن هذا التطور الحاصل عند ابوشويشة نجده قد تكرس على مستوى المشهد التشكيلي في العالم، ويعاني فيه المهتمين به على مستوى النقد والتاريخ من ملاحقته وتناوله، لما يمتاز به من سرعة في التهشيم والازاحة للمعاني السابقة، والاتيان بأشكال جديدة في التعبير، إن هذه من مميزات العالم اليوم، خصوصا لما يتم إنتاجه على جميع المستويات الإبداعية – محليا – عربيا- دوليا في مجال الفنون التشكيلية.
(الانقلاب الذي حدث في تجربة رضوان الإبداعية)
أي الانتقال من لوحة المسند إلى فضاءات الكتلة والفراغ – التكثيف- الاختزال – المفهوم.. وكي نجد ايجابات لهذه الاشكالية.. علينا العودة إلى الفنان، وطرق تفكيره.. والمعالجات التي كان يستخدمها في أعماله الإبداعية التشكيلية.. ولا نقصي هنا تجربته في المجال الأدبي التي كانت بالضرورة المحرك الأساسي للفعل التشكيلي عند الفنان، وبلا شك في إننا سنجد مفتاح لحل هذه الملابسات داخل تجربته الإبداعية.. التي من ناحية نجد القطيعة فيما بينها كتجربة.. أي ما قبل معرضه الذي دشنه برواق دار الفنون، ومعرضه لاحقا الذي يؤكد ما كنا قد أسلفنا في ذكره "احتفاءً بألف سنة من الفن الصخري" – الإشارة هنا لجبل "اكاكوس – الجنوب الليبي" أو ما تضمنه المعرض من أعمال متنوعة في أدائية تقنياتها وأجناسها.. والتي دونتها مطوية المعرض بمسميات كالآتي:
تنصيبات تشكيلية installaion مواد سابقة التصنيع – Premade Material رسوم – Painting.
إن هذا التنوع في الأشكال والأجناس التي أوجدها الفنان في معرضه كي يصل إلى قيمة تكرس فكرة مسبقة تمخضت في وعيه، كما تخضع إلى طرائق مختلفة في التنفيذ والتجهيز داخل ورشة عمل الفنان.. فنجد أنه بهذه الطرائق المختلفة أمكنه التغلب على إشكاليات المعالجات الفنية التي واجهته أثناء الاستعداد والتحضير والاشتغال، وذلك باللجوء إلى اختبار مواده الخام في إنتاج عمل "ما" أي إمكانية التجريب والتغيير عند شروعه في العمل، حتى الإلغاء والشطب في بعض الأحيان يمكن أن يحدث أثناء فترات الاشتغال عند الفنان.. خصوصا إذا كان الفنان يرتهن إلى أدوات هو دائم البحث عنها في الطرقات والأزقة "أي بقايا أشياء لم يعد لها وظيفة".. هي أشياء مهملة يعيد الفنان اكتشافها واستخدامها في شكل جديد.. باعثا فيها معنى "ما" إلا أن هذا التنوع في أعماله التي تتقاطع مع بعضها البعض.. تأتي على حساب المضمون الذي كرس الفنان له جهده ووقته طيلة سنة من الاشتغال والسهر.
رغم أن الفنان في هذا المعرض قد أرسى تقليدا جديدا داخل خارطة التشكيل الليبي.. مستفيدا من أرشيف إبصاراته ومشاهداته التي تلتقي مع ما أنتجه الغرب في هذا الأمر.. وذلك باللجوء إلى التعبير بمواد جديدة في الفن التشكيلي.. والتي تأتي بعد مرحلة الستينيات من القرن الماضي.. أي ما بعد البوب آرت "Pop Art".
فقد قامت حركات عديدة في الفن التشكيلي، منها من استفاد من الفيديو والفوتوغراف وغيرهما من أشكال التعبير التي لم تكن مطروقة في هذا الجانب من الفن، والتي لجأت إلى التعبير بمواد جديدة.. فكان أن أثر هذا في العديد من الفنانين العرب "متأخراً" أي بعد ما أصبحت هذه الحركات الجديدة في الغرب تستنفد إمكاناتها وتبحث عن شكل جديد.. كما أن أصواتا ظهرت تتخذ من التشخيصية المحدثة شكلا جديدا في التعبير.. وتنادي بالعودة إلى المواد القديمة في الفن التشكيلي.. وكل هذا إثراء وغنى للمشهد التشكيلي العالمي، الذي بات بين تيارات متعددة ومختلفة في آن واحد.
فمن هنا يأتي رضوان ابوشويشة محملا بإرث محلي عالمي إنساني.. العنوان "اكاكوس" أدوات التعبير جديدة.. عالمياً مطروقة.. محليا جهل كامل بهذه المتكونات الجديدة في الفن التشكيلي "أي يوجد الكثير من الخلط والارتباك في تقييم ومعرفة هذه الأشكال الجديدة في الفن.. كما أن هناك الكثيرين من ينظرون إلى مثل هذه التجارب على أنها غير مسبوقة".. ونستطيع في هذا الجانب الرجوع إلى فنانين معاصرين تناولوا ولازالوا طرائق التعبير الجديد بمواد جديدة ومنهم الألماني.. الفنان FRANZ ACKERMANN يأتي من مناخات الفوتوغراف.. يتحول إلى فن المفهوم والتنصيبات.. ويعتمد في عمله استعمال التدهين والتبقيع على جدران فضاءات العرض.. كما يستعمل معها تركيبات فراغية وعناصر أخرى تساهم في تعمق الفكرة التي طالما اشتغل عليها.
فنانة "EIJA - LIISA AHTILA" من فلندة تشتغل على الفوتوغراف والفيديو.. فنان من أمريكا "KEITH EDMIER" يشتغل على فن التنصيبات والمواضيع التي يعالجها الفنان تتعلق جلها بالبيئة.
إذا لا عجب أن تتسع مدارك ابوشويشة ويتخذ من هذا الجديد في الفن مدخلا لأفكاره وإبداعاته الفنية التي وجد فيها فضاءً آخر للتعبير، يتجاوز إمكانات الحامل في التشكيل.. فكان أن جعل ابوشويشة ينتبه للطرائق الجديدة في التعبير ويستفيد من إمكاناتها لتتحول إلى منبر يحاول تمرير خطابه بكسر تابوهات المقدس في الفن الكلاسيكي الحديث في بلادنا.. ومساءلة اليوم من خلال الأمس "المساءلة هنا باستدعاء الماضي البعيد والقريب في خصوصية حياة الليبيين" ليقدم لنا بأعماله الجديدة شكلا فاضحا لواقع متشرنق على ذاته المعبود لذاته كربة إخصاب وعطاء!.. هذا الواقع يدعي المعاصرة والمدنية: وذلك بإزاحة الأمس – تغييبه- تسطيحه- من خلال اجتراره عبر مظاهر هشه باهته.. يتم تقديمه بالوسائل المطروقة – إعلام الدولة- دوائر الشعراء الشعبيين – لوحة مسند التمجيد للظلال الماضوية المفتعلة.. جمل وصحراء أرهقهما الرسم.. مسارح ومسلسلات الحكاية الضائعة ما بين الأمس واليوم كل هذا يتم بأدوات المعاصرة في الحياة والأشياء.
ففي أعمال ابوشويشة الأخيرة نجد بعض العزاء، الذي يحرك الذهن وفق خارطة معدة مسبقا لهذا الأمر.. وذلك بقيام الفنان بإنتاج مشهد دراماتيكي غير تمثيلي للواقع.. هذه التركيبات تحتوي على العديد من الإشارات والدلالات، التي تتخذ من الشكل الواقعي للمكون الإبداعي وعاء احتمال للممكن المخفي خلف أنماط بصرية مألوفة للعين والذاكرة "جسد محطم على كرسي يرتدي قناعا للوجه.. لا يفلح هذا القناع في حماية مرتديه من تلوث محيطه.. كما أن الأشياء المرمية أمام الجسد تكون ذات حضور رمزي.. أي حضور يعمق الفكرة، ولا تخدم هذه الأشياء المرمية الواقع السردي.. كما أن اشتغال الفنان في هذا العمل يعتمد على المفارقة التي يحملها العمل.. وذلك بطرح أسئلة فراغياته التشكيلية التي تصدمنا" وجه – قناع – أشياء مرمية "لا يملكها أحد، ربما هي من يملكنا " – السرد هنا ينتهي ويعلن موته.. ويتحقق فعل الاختزال في مكوناته الفراغية "المفهومي" وتنتصر لعبته بمشاغبة الذهن واستفزازه.. بأدائية عالية تحققت بفعل التكثيف.
Labels: نافذة اللون
<< Home